الفكر الإسلامي

 

القرآن .. للحياة

 

 

بقلم : الأستاذ سلمان بن فهد العودة

  

 

  

 

 

       يوم أن كنا صغارًا نسابق بعضنا أيُّنا أسرع ختمًا للقرآن، وأيُّنا أسرع قراءة، وأيّنا الذي يصل لآخر السورة أولاً، ومع لطافة هذه السباقات وفضلها إلا أنها جزء من سمة عامة للتربية التي تقدم (الكيف) على الكم، وتحرص على (العدد) مقابل (الصفة والأداء)، ولذا ربما يهذّ الإنسان القرآن هذًّا كهذّ الشعر، ونثرًا كنثر الدقل، لا يقف عند حدوده وآياته ومعانيه، وهمه آخر السورة أو آخر الجزء، كما أنكر ذلك ابن مسعود – رضي الله عنه – على قراء القرآن الكريم، وفي الأثر المشهور عن أبي عبد الرحمن السلمي أنهم كانوا لايزيدون على حفظ عشر آيات حتى يعرفوا معانيها وحقها، ويفهموا ما فيها من الحلال والحرام والعظة والقصة، ثم يتجاوزوها إلى غيرها .

       والمسلمون اليوم بقدّر ما ترى المصحف بين أيديهم وربما في صدورهم تراهم أيضًا يقتربون من القراءة الروتينية له، ويبتعدون عن تأمله وتدبره ويشطحون عن سماع تقريعه أو إطرائه أو وصفه أو قصته، والعجب لا ينتهي حين ترى أن آيات الله تُؤخَّـــر عن استلهامهــا في التـــربية والفقه والفكر والحـــركـــة والإيمـان والسلوك، مع إيمـــان الجميع إيمــانًا عميقًا بــأولوية النصوص القرآنية على كل شيء وهيمنتها على كل مستوى ، فتـرى الناس يختلفون ويصطرعون حول ظنيات ومصــالح وتـــأويلات ويتـــركــون ما يتفقــون كلّهم علــى معناه من صريح القرآن في الدعوة العامة للإيمان والاجتماع حولها بعد إنزال القرآن والنهي عن الاختلاف فيه ، بل وترى في القرآن الكريم دعوة مجلجلة إلى أن يخشع الجميع لذكر الله وما نزل من الحق والقرآن، وألاّتشغلهم صروف السياسة وحدثان العلم والفكر والمال فتقسو قلوبهم وتصدأ نفوسهم: (أَلَمْ يَأنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ الله وَمَانَزَلَ مِنَ الْحقِّ وَلاَ يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ).

       أفلا يتدبر العالم القرآن ، أفلا يَتَدبر الفقيه القرآن ، أفلا يتدبر السياسي القرآن، أفلا يتدبر الاقتصادي القرآن ، أفلا يتدبر الجميع القرآن، (أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عندِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَــدُوا فِيـــه اخْتِـلاَفًا كَثِيرًا) (سورة النساء) (اَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا) نعم، لرأوا تناقضًا واضطرابًا وتفككاً؛ ولكن القرآن يعطي قواعد عامة للتعامل مع الحياة يسلّم لها المسلم وهو في غاية الرضا والفرح بأمر الله. يقول ابن مسعود: إذا سمعت الله عزّ وجلّ يقول في كتابه: (يا أيها الذين آمنوا) فأصغ لها سمعك؛ فإنه خيرٌ تؤمر به، أو شرُ تُصرف عنه .

       فهل يعجز المسلم عن تعويد نفسه وأذنه وجوارحه على تسليم نفسه كل جوارحه ومفاصله ومشاعره للقرآن .

       أحيانًا أسأل نفسي: كيف يؤثر القرآن فينا إذا كانت نفوسنا ملأى بآراء سابقة راسخة ومستقرة، وليس لأحدنا استعداد لأن يغيرها أو يعيد النظر فيها، وعنده آراء لفلان وفلان من العلماء أو الفقهاء أو الساسة أو الشيوخ أو غيرهم، وهذه الأقوال مقدَّمة ومسلَّمة، ولا يمكن تجاوزها ولا مناقشتها، إضافة إلى شهوات مسيطرة على الإنسان، وخلفيات ثقافية ومعرفية ومجتمعية تضع عشرات العوائق والعقبات أشبه شيء بالغلاف الذي يحجب عن فهم القرآن بكل معانيه فهي الأكنة التي يذكرها القرآن؟!

       ونحن لانشك في إسلام وصدق هؤلاء إلا أن هذا اللاوعي يؤثر في الإدراك حيث لا يشعر الإنسان ما لم يراجع ويحاول بكل قوته وإمكانياته، فإذا اجتمعت كل هذه المشاكل أمام فهم القرآن فكيف سيفهم المسلم هذا النص القرآني العظيم ؟

       إن علينا أن نحتفي بتوجيه الله، وأن نستسلم ونقف عند كل تصحيح قرآني للأخطاء والعادات المحكمة في مجتمعاتنا، بحيث يكون عندنا استعداد تام لأن نعتبر هذه الأشياء الكثيرة ونقترب من تطبيق وامتثال هذا القرآن الكريم .

       ولو نظرنا إلى الجيل المثالي – جيل الصحابة – كيف تعايشوا مع القرآن؟ وما هي الآيات التي عملوا بها؟ لوجدنا أنهم سلموا أنفسهم للقرآن، ولذلك أقول: لنطرح على أنفسنا جميعًا شعار: (سلِّم نفسك للقرآن) لنكون كما أمر الله عزّ وجلّ وعلى الوجه الذي يأمر سبحانه وتعالى، فإذا استطعنا أن نسيطر على أنفسنا، ونحكم فيها القرآن، ونكشف مواطن الخلل والضعف والقصور، ونجعل المرجعية له، فهنا نكون سلمنا أنفسنا له ، واهتدينا إلى تدبره، وكيف ندرس أسراره وإعجازه وكيف يكون مقويًا لإيماننا في زمن الضعف؟ وكثير من المسلمين يعتقد أن الأجر محصور في التلاوة، وقد تبيّن لي أن الأجر ليس مبنيًا على كثرة ما يقرؤه الإنسان، بل هو مبني على ثلاثة أمور:

       الأول : الوقت ، فإذا قضى المسلم ساعة – مثلاً – في قراءة القرآن الكريم كُتب له أجر ساعة، ولو قرأ بها وجهاً واحدًا يردده ويتدبره أو جزءًا .

       الثاني: الجودة، والمهارة فيه وتجويد لفظه والترنم فيه وترتيله، ولذلك يقول الصادق المصدوق – – كما في الصحيحين: (الماهر في القرآن مع السفرة الكرام البررة، والذي يقرأ القرآن ويتعتع فيه وهو عليه شاق له أجران) ويدخل في المهارة فيه: تجويده وضبطه وتأمله والوقوف عنده .

       الثالث : الأثر الذي يحدثه القرآن على نفس القارئ والسامع .

       وبالتأمل العام للقرآن ودراسته ومدارسته سنكشف الكثير من الأخطاء والمشاكل والعلل والأدواء العقلية والعلمية والاجتماعية والسياسية والأخلاقية، ونحن أحوج ما نكون في هذا الوقت إلى المصارحة ونحن نتحدث عن القرآن والإيمان، والمصارحة لا تعني الوقاحة والبذاءة، وكثيرون قد يرحبون بالمصارحة إذا كانت في صالحهم وتستهدف طرفًا آخر، أما إذا كانت المصارحة تخاطبهم هم فإن الكثيرين يكونون بمعزل عنها، فنحن لدينا استعداد أن نهاجم أعداءنا؛ لكن ليس لدينا استعداد أن نهاجم مكامن الخلل في نفوسنا، والقرآن يعلم الأخلاق مع الأصدقاء والأعداء، ويعلمنا أن التغيير يبدأ من الاعتراف بمشاكلنا الداخلية وعللنا وأدوائنا، وبذلك يتم التغيير والإصلاح: (إِنَّ اللهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ) .

       إننا وفي الاستجابة للقرآن ومقاصده ومفاهيمه نريد أن نقرأ القرآن ونسمعه ونقرئه للناس على أنه للحياة والأحياء، ونريد للقرآن أن يعيش بيننا في واقع حياتنا، وإن الذي يقبل على القرآن يجد فيه من أسرار البلاغة والإعجاز وقوة الإيمان شيئًا عظيمًا، خصوصًا في هذا العصر الذي يحتاج فيه الناس إلى تعزيز إيمانهم وإزالة الأوضار التي علقت بنفوسهم وجثمت على صدورهم .

       وأخيرًا:

       إن بعض المسلميـــن يعـــرفون القرآن للموتى، فهل يعرفونه للأحياء؟ وهل يعرفونه للحياة ؟

       إن القرآن للحياة والأحياء مع حفظ حق غيــــرهــم في ذلك ، إلا أن الأحياء أبقى وأولى من الأمـــوات ، والاهتداء بالقرآن في مسارب الحياة أحـــق مــن مقابر الأموات ، (أَوَ مَنْ كَانَ مَيْتًا فَأحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَــــهُ نُورًا يَمْشِي بِه في النَّاس كَمِّن مَّثَلُهُ في الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ).

*  *  *

*  *

*

مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، الهند . ذوالقعدة 1428هـ = نوفمبر – ديسمبر 2007م ، العـدد : 11 ، السنـة : 31.